تحليلات
كتب فاطيمة طيبى 27 يوليو 2025 12:59 م - التعليقات "الفاو": كمية الطعام المهدر سنويا تكفي لإطعام نحو 2 مليار شخص اعداد ـ فاطيمة طيبي يعد مشهد اصطفاف مئات الأسر في طوابير طمعا في الحصول على غذاء يسد رمقها هو صورة متكررة في العديد من الدول الفقيرة، يأتي هذا في وقت تلقى أطنان من الطعام في مكبات النفايات في مناطق أخرى من العالم. هذا التناقض يعكس فجوة صارخة بين الوفرة والهدر، حيث تهدر بعض الدول كميات ضخمة من الغذاء تكفي لإطعام ملايين الجائعين، في وقت تعاني فيه مناطق بأكملها من نقص التغذية، وهو ما يكبد اقتصادات العالم خسائر هائلة. ويعد الهدر الغذائي من أكبر التحديات التي تواجه العالم اليوم، حيث يهدر نحو 1.3 مليار طن من الطعام سنويا، أي ما يعادل ثلث الغذاء المنتج عالميا مما يشكل خسائر اقتصادية هائلة وأضرارا بيئية جسيمة، ويتسبب في استنزاف الموارد الطبيعية مثل المياه والأراضي والطاقة. ـ حجم المشكلة تفسره أبرز الإحصائيات: لكن ما مدى خطورة هذه الظاهرة مستقبلا .. تشير تقديرات منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) إلى أن كمية الطعام المهدر سنويا تكفي لإطعام نحو 2 مليار شخص، أي ضعف عدد الذين يعانون من الجوع حول العالم. ولا يقتصر تأثير الهدر الغذائي على الجانب الإنساني فقط، بل يمتد ليكبد الاقتصاد العالمي خسائر تصل إلى 940 مليار دولار سنويا، ليشكل عبئا هائلا على الاقتصادات المحلية والعالمية، وفقا لمؤشر هدر الطعام لعام 2024. وعند النظر إلى توزيع الهدر الغذائي بين الدول، يتضح أن الدول ذات الكثافة السكانية الأكبر تسجل أعلى معدلات الفاقد، إذ تُهدر الصين وحدها نحو 108.7 مليون طن من الطعام سنويا، تليها الهند بـ 78.1 مليون طن، مما يجعلهما في صدارة الدول الأكثر فقدا للغذاء. وفي أوروبا، تسجل دول مثل فرنسا وألمانيا معدلات تتراوح بين 3.9 و6.5 مليون طن سنويا، وهو رقم أقل نسبيا لكنه لا يزال يشكل تحديا بيئيا واقتصاديا. أما في الولايات المتحدة، فتأخذ المشكلة بعدا أكثر خطورة، حيث يصل حجم الهدر الغذائي إلى 60 مليون طن سنويا، ويمثل هذا الفاقد حوالي 40% من إجمالي إمدادات الغذاء الأمريكية، أي ما يعادل 325 رطلا من الطعام المهدور لكل فرد سنويا. وبطريقة أكثر وضوحا، يمكن القول إن كل شخص في أمريكا يلقي في المتوسط 975 تفاحة متوسطة الحجم في سلة المهملات سنويا. ولا تقتصر تداعيات الهدر الغذائي في الولايات المتحدة على فقدان الطعام فحسب، بل تمتد إلى البيئة أيضا، إذ يعد الطعام أكبر مكون في مكبات النفايات الأمريكية، حيث يشغل 22% من إجمالي النفايات الصلبة البلدية. وبالإضافة إلى ذلك، تقدر قيمة الطعام المهدر هناك بحوالي 218 مليار دولار سنويًا، أي ما يعادل 130 مليار وجبة كان من الممكن أن تسد احتياجات الملايين. ـ أسباب الهدر الغذائي وآثاره : تتعدد أسباب الهدر الغذائي في مقدمتها سوء التخزين والنقل والذي يؤدي إلى فساد كميات كبيرة من المنتجات الغذائية، خاصة في البلدان ذات المناخ الحار، بسبب نقص وسائل التبريد المناسبة. وفي الدول المتقدمة، يحدث الهدر في الغالب على مستوى المستهلكين وسلاسل التوزيع، حيث يتم التخلص من كميات كبيرة من الطعام القابل للأكل بسبب ثقافة الاستهلاك المفرط والمواصفات الصارمة للمحاصيل الغذائية. أما في الدول النامية، فيحدث الهدر غالبا خلال مراحل الإنتاج والنقل والتخزين بسبب ضعف البنية التحتية ونقص التقنيات الحديثة. كما يسهم الإنتاج المفرط في تفاقم المشكلة، حيث يتم إنتاج كميات أكبر من الطلب المتوقع في بعض القطاعات الزراعية، مما يؤدي إلى التخلص من الفائض بدلا من الاستفادة منه. ولا يقتصر الهدر على الإنتاج فقط، بل تلعب معايير الجودة الصارمة التي تفرضها المتاجر الكبرى دورا أساسيا في تفاقم الظاهرة، حيث يتم رفض الفواكه والخضراوات غير المطابقة للمواصفات الجمالية، رغم أنها صالحة للاستهلاك. وعلى مستوى الأفراد، تؤثر العادات الاستهلاكية بشكل كبير في زيادة الفاقد الغذائي، حيث يؤدي الإفراط في الشراء، وسوء التخطيط للوجبات، والتخلص العشوائي من الطعام المتبقي في المنازل والمطاعم إلى هدر كميات ضخمة من الغذاء. كما أن السياسات التجارية لبعض المتاجر والمطاعم تزيد الأمر سوءا، إذ يتم التخلص من المنتجات الغذائية التي تقترب من انتهاء صلاحيتها، حتى وإن كانت لا تزال صالحة للأكل. ولا تتوقف تداعيات الهدر الغذائي عند الخسائر المادية فقط، بل تمتد إلى تأثيرات بيئية خطيرة. وفي هذا السياق تقول "إنجر أندرسن"، المديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة: "يُ " مثل هدر الطعام مأساة عالمية. سيعاني الملايين من الجوع اليوم مع هدر الطعام في جميع أنحاء العالم" . وأضافت: "لا يقتصر الأمر على كونه قضية إنمائية رئيسية، بل إن آثار هذا الهدر غير الضروري تسبب تكاليف باهظة للمناخ والطبيعة".
وأوضحت أن الخبر السار هو أنه إذا أولت الدول هذه القضية الأولوية، فيمكنها عكس مسار فقد وهدر الغذاء بشكل كبير، والحد من آثار المناخ والخسائر الاقتصادية، وتسريع التقدم نحو تحقيق الأهداف العالمية والتي من بينها القضاء على الجوع. فمع كل طن من الطعام يتم التخلص منه، تنبعث كميات كبيرة من غازات الاحتباس الحراري، مما يجعل الهدر الغذائي مسؤولا عن 8-10% من إجمالي الانبعاثات العالمية. وعند تحلل الطعام في مكبات النفايات، ينتج غاز الميثان، الذي يعد أكثر ضررا من ثاني أكسيد الكربون، مما يفاقم ظاهرة تغير المناخ. إضافة إلى ذلك، يسهم فقدان الغذاء في استنزاف الموارد الطبيعية، حيث يستهلك إنتاج الطعام المهدر حوالي 25% من إجمالي المياه العذبة عالميا، مما يضع ضغطًا متزايدا على الموارد المائية الشحيحة. ويمتد ضرر الهدر الغذائي إلى تلوث التربة والمياه الجوفية، خاصة في المناطق التي تعاني من ضعف أنظمة إدارة النفايات، حيث تتحلل بقايا الطعام بشكل غير منظم، محدثة آثارا بيئية سلبية. وعلى الصعيد الاقتصادي، يشكل الطعام الضائع عبئًا باهظًا على القطاع الزراعي والصناعات الغذائية. وتؤدي خسائر الإنتاج والتوزيع إلى ارتفاع التكاليف التشغيلية دون تحقيق عوائد اقتصادية متكافئة، مما يؤثر سلبا على سلاسل الإمداد الغذائي ويزيد من الضغوط المالية على المنتجين والمستهلكين على حد سواء. ـ الحد من الهدر الغذائي وتجارب ناجحة : يتطلب الحد من الهدر الغذائي، تبني حلول مستدامة تعالج المشكلة من جذورها، في مقدمتها تطوير البنية التحتية والتكنولوجيا ، من خلال تحسين أنظمة التخزين والتبريد، لا سيما في الدول النامية، للحد من فقدان الغذاء أثناء النقل والتوزيع. كما يسهم توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي في تحليل بيانات الطلب الغذائي، ما يساعد في تقليل الإنتاج الفائض وتحقيق كفاءة أعلى في توزيع الموارد. وعلى مستوى السياسات، يعد تعديل التشريعات خطوة ضرورية لمكافحة الهدر، عبر فرض قوانين تلزم المتاجر والمطاعم بعدم التخلص من الطعام القابل للاستهلاك وتشجيع التبرع به. إضافة إلى ذلك، يمكن للحكومات وضع استراتيجيات وطنية تقلل الفاقد الغذائي، مثل تشجيع إعادة تدوير النفايات العضوية وتحفيز الابتكار في إدارة الموارد الغذائية. إلى جانب الإصلاحات التقنية والتشريعية، يشكل رفع الوعي المجتمعي ركيزة أساسية في تقليل الهدر الغذائي. ويمكن تحقيق ذلك من خلال حملات توعية تحث الأفراد على تخطيط وجباتهم بعناية، وحفظ الطعام بطرق سليمة، وتقبل المنتجات غير المثالية بدلا من رفضها لمجرد عيوب شكلية. كما يمكن تعزيز الاقتصاد الدائري من خلال إعادة تدوير المخلفات الغذائية لاستخدامها في إنتاج الأسمدة العضوية والوقود الحيوي، فضلا عن دعم الشركات الناشئة التي تقدم حلولا مبتكرة للاستفادة من الطعام المفقود. وقد شهد العالم نجاحات ملحوظة في الحد من الهدر الغذائي عبر مبادرات رائدة. على سبيل المثال، قامت منظمة "فيدنج أمريكا" في الولايات المتحدة بجمع فائض الطعام من المطاعم والمتاجر الكبرى وإعادة توزيعه على بنوك الطعام، مما ساهم في توفير ملايين الوجبات سنويا للمحتاجين. كما أطلقت بعض المطاعم تطبيقات مثل "تو جود تو جو"، الذي يتيح للمستهلكين شراء الطعام الفائض بأسعار مخفضة، مما ساعد على تقليل نسبة الهدر وتوفير وجبات للأسر ذات الدخل المحدود. أما على مستوى السياسات الحكومية، فقد تبنت بعض الدول إجراءات فعالة لمواجهة هذه الظاهرة، ففي فرنسا، تم فرض قانون يلزم المتاجر الكبرى بالتبرع بالطعام غير المبيع بدلا من التخلص منه، مما أدى إلى توفير ملايين الوجبات للمحتاجين. وفي الدنمارك، تم إطلاق متاجر "وي فود"، التي تبيع المواد الغذائية قريبة الانتهاء بأسعار مخفضة، ما شجع المستهلكين على الاستفادة منها بدلًا من إهدارها. أما كوريا الجنوبية، فقد اعتمدت نظاما لفرض رسوم على كمية الطعام المهدر، مما أدى إلى خفض نسبته بنسبة 30% خلال سنوات قليلة، في خطوة أثبتت فعاليتها في تغيير سلوك المستهلكين وتقليل الفاقد الغذائي. وتعكس هذه المبادرات والنماذج الناجحة إمكانية تحقيق تغيير ملموس في سلوك الأفراد والسياسات الحكومية على حد سواء، مما يمهد الطريق نحو مستقبل أكثر استدامة، يحسن استغلال الموارد الغذائية ويحد من تأثير الهدر على الاقتصاد والبيئة. وتشير أرقام الهدر الغذائي إلى مدى ما يمثله من أزمة عالمية متعددة الأبعاد، تؤثر على الاقتصاد والبيئة والأمن الغذائي. ومع تزايد الوعي بهذه المشكلة، أصبح من الضروري تبني حلول فعالة ومستدامة، سواء على مستوى الحكومات أو الأفراد، للحد من الهدر وتحقيق مستقبل غذائي أكثر استدامة. وقد تشكل بعض الخطوات البسيطة مثل تخطيط الوجبات، وإعادة توزيع الطعام الفائض، وتحسين طرق التخزين، فرصة في الحد من هذه الظاهرة وضمان استفادة الجميع من الموارد الغذائية المتاحة.
|
||||||||||