أبحاث
كتب فاطيمة طيبى 24 سبتمبر 2025 1:25 م - التعليقات أزمة سيولة تهدد دور الأمم المتحدة وإجراءات تقشفية غير مسبوقة. اعداد ـ فاطيمة طيبي تواجه الأمم المتحدة، أحد أبرز أعمدة النظام الدولي منذ تأسيسها عام 1945، مأزقا ماليا يعصف بقدرتها على تنفيذ مهامها المتزايدة. فرغم إقرار ميزانية سنوية بالمليارات، إلا أن التأخر المزمن في سداد حصص الدول الأعضاء يضع المنظمة أمام أزمة سيولة مستمرة، دفعت الأمانة العامة إلى إجراءات تقشفية غير مسبوقة. وتعتمد المالية العامة للأمم المتحدة على ثلاثة مصادر رئيسية... ـ الأول: الميزانية النظامية، التي تغطي النفقات الإدارية والبرامج الأساسية، وبلغت في عام 2025 نحو 3.5 مليار دولار. ـ الثاني : ميزانية حفظ السلام، المنفصلة عنها، وتمول بعثات قوات الأمم المتحدة المنتشرة في مناطق النزاع، وقد بلغت للسنة المالية 2024 ـ 2025 ما يقارب 5.6 مليار دولار. ـ معادلة الحصص : وتوزع أعباء التمويل بين الدول الأعضاء وفق نظام يسمى مقياس التقييم، تقره الجمعية العامة كل ثلاث سنوات. هذه المعادلة تستند إلى قوة كل اقتصاد، من الناتج المحلي الإجمالي والدخل الفردي إلى معدلات الدين العام، مع إعفاءات أو تخفيضات للدول النامية والأقل نموا. وبحسب آخر مقياس، تتحمل الولايات المتحدة نحو 22% من الميزانية النظامية، فيما تقترب الصين من 20%. اليابان، ألمانيا، والمملكة المتحدة تأتي في المراتب التالية. لكن هذا التركز يجعل الوضع هشا للغاية: أي تأخر أو امتناع من دولة كبرى يعني فجوة مباشرة بمئات الملايين من الدولارات. ـ سيولة غائبة : والمفارقة الكبرى أن العجز في الأمم المتحدة لا يرتبط عادة بنقص الاعتمادات، بل بتأخر التدفقات النقدية. فبحسب تقرير صدر من مكتب الأمم المتحدة بجنيف بتاريخ 30 مايو الماضي 2025 ، فإن المبالغ التي دخلت خزينة المنظمة لم تتجاوز 1.8 مليار دولار من أصل 3.5 مليار معتمد وذلك بحلول أبريل 2025. أي أن المنظمة تعمل بنصف مواردها تقريبا، في وقت تتزايد فيه المهام من حفظ السلام إلى الاستجابة الإنسانية. وهذه الفجوة أجبرت الأمانة العامة على تجميد التوظيف وتأجيل مشاريع، والاعتماد على صندوق رأس المال العامل لسد الثغرات المؤقتة. لكن حتى هذا الصندوق يظل محدود القدرة، ما يترك المنظمة تحت ضغط دائم . ـ تأثير مباشر على العمليات الميدانية : والأزمة المالية ليست مسألة محاسبية فقط، بل تنعكس مباشرة على عمل المنظمة حول العالم. تأخر الأموال يؤدي إلى تأخير دفع عقود المقاولين، إبطاء استجابة بعثات حفظ السلام، وحتى تعطيل بعض الأنشطة التنموية. ففي أفريقيا على سبيل المثال، تواجه بعثات حفظ السلام في مالي وجنوب السودان صعوبات متزايدة في تأمين التمويل اللازم للعمليات اللوجستية. وفي الشرق الأوسط، تعاني برامج الإغاثة من تأخر وصول المخصصات، ما يهدد بتقليص المساعدات في مناطق نزاع. ـ إجراءات تقشفية غير مسبوقة : وأمام هذا الواقع، لجأت الأمانة العامة إلى خطوات صارمة بينها استخدام مكثف لصندوق رأس المال العامل، رغم أنه مصمم لتغطية فجوات قصيرة الأمد فقط، وإلغاء أو تجميد وظائف غير أساسية، وهو ما أثار قلق الموظفين في المقر الرئيسي بنيويورك. علاوة على ذلك قررت المنظمة إطلاق قوائم الشرف (Honour Roll) لتسمية الدول التي سددت كامل حصتها، في محاولة للضغط المعنوي على المتخلفين. كما عملت المنظمة على إعادة ترتيب الأولويات عبر تركيز الموارد على الأنشطة الأكثر إلحاحا وتأجيل ما يمكن تأجيله. لكن هذه الإجراءات، بحسب مراقبين، لا تعالج جذور الأزمة، بل تؤجلها. وأزمة التمويل ليست جديدة. ففي مطلع الألفية، واجهت المنظمة صداما مع الولايات المتحدة حين فرض الكونجرس سقفا على مساهمة واشنطن، وهو ما أدى إلى تراكم متأخرات ضخمة. واليوم، يتكرر المشهد بصورة مختلفة: بعض الدول الكبرى، بينها الصين والولايات المتحدة، تتأخر في الدفع لأسباب سياسية أو اقتصادية، فتتحول الميزانية إلى ورقة ضغط غير معلنة. ـ الدورة الثمانون لـ"الأمم المتحدة".. وتغير اقتصاد العالم في 8 عقود : تنطلق فعاليات الدورة الثمانين من الجمعية العامة للأمم المتحدة، بينما تواجه المؤسسة بالكامل تحديات كبيرة بشأن دورها المنوط بها سياسيا واقتصاديا. فالأمم المتحدة، التي تأسست عام 1945، لعبت دورا محوريا في تشكيل الدبلوماسية العالمية وحفظ السلام والتنمية الاقتصادية على مدار الثمانين عاما الماضية. لكن الدورة الثمانين من الجمعية العامة والتي تنطلق في 23 سبتمبر وتستمر حتى 27 سبتمبر ، وتختتم يوم 29 سبتمبر ، ستكون عن واحدة من أهم الفعاليات العالمية، إذ تأتي في خضم ذروة غير مسبوقة من الصراعات الجيوسياسية، وتحولات اقتصادية وتكنولوجية عنيفة. على مدار 80 عاما، مر المشهد الاقتصادي العالمي بتحولات كبيرة، حيث تغيرت قائمة أقوى اقتصاد في العالم مرارا استجابة لعوامل مختلفة مثل الأحداث الجيوسياسية والتقدم التكنولوجي والسياسات الاقتصادية. ففي عام 1945، كانت الولايات المتحدة تنتج أكثر من نصف الناتج الصناعي العالمي. أما اليوم، فلا يتجاوز نصيبها السدس. وكان حجم التجارة الدولية أقل من ربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي؛ أما اليوم، فهو يتجاوز النصف. وتحولت الصين من اقتصاد زراعي إقطاعي إلى قوة صناعية عملاقة. ـ حقبة اقتصادية جديدة تماما بعد 8 عقود : بالنسبة لمؤرخي الحقبة الاقتصادية التي أعقبت الحرب الثانية، يمكن أن يبدأ التاريخ الاقتصادي لحقبتنا هذه تحديدا من عام 1944 أي قبل 81 عاما، وتحديدا عندما استضافت بلدة صغيرة تدعى بريتون وودز (Bretton Woods) في ولاية نيوهامبشر الأمريكية مؤتمرا هدفه وضع مجموعة جديدة من القواعد والمؤسسات التي يمكن أن تنظم الرأسمالية العالمية بعد كوارث الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية، وقد أرست "بريتون وودز" البنية التحتية للاقتصاد العالمي الحديث. وبحسب تحليل لمايكل جاكوبس أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة شيفيلد وزميل أبحاث أول زائر في مركز الفكر العالمي ODI، أضحى العالم مكانا مختلفا تماما بعد 8 عقود، بينما تزداد المطالبات بعقد "بريتون وودز جديدة"، بعد القديمة التي هيمنت عليها آنذاك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. ـ أبرز محطات الأعوام الثمانين الاقتصادية : كانت نظريات كينز قد أحدثت ثورة في تفكير الاقتصاديين بشأن السياسات المحلية، إذ جادل بأنه في حال دخلت الاقتصادات في حالة ركود، فإن على الدولة أن تزيد من الإنفاق العام بهدف الحفاظ على التوظيف الكامل. ـ إنشاء صندوق النقد والبنك الدوليين: بتوجيه من كينز، أنشأ مؤتمر بريتون وودز مؤسستين جديدتين: "البنك الدولي للإنشاء والتعمير" (الذي أصبح يعرف لاحقا بالبنك الدولي)، و"صندوق النقد الدولي" (IMF) . كانت مهمة البنك الدولي الاستثمار في التنمية الاقتصادية للدول بعد الحرب، من خلال القروض التجارية والميسرة (منخفضة الفائدة) . أما دور صندوق النقد الدولي، فكان دعم البلدان التي تواجه أزمات مالية، لتجنب سلسلة التخفيضات التنافسية للعملات التي ساهمت في الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي. ـ خطة مارشال : انطلقت خطة مارشال بين عامي 1948 و1952 عبر منح الدول الأوروبية ما يعادل اليوم 173 مليار دولار من أجل تعافيها بعد الحرب، وساهمت في تشكيل "العصر الذهبي" للنمو الاقتصادي العالمي من عام 1945 وحتى منتصف السبعينيات. ـ سياسات السوق الحرة : صعدت سياسات السوق الحرة ـ بعد انتخاب مارجريت تاتشر (بريطانيا) ورونالد ريجان (أمريكا) في 1979ـ 1980، حيث تغير دور كل من البنك الدولي وصندوق النقد. فقد بدأوا بفرض شروط تقشفية على قروضهم، مما أجبر الدول المتلقية على إجراء "تعديلات هيكلية" في سياساتها الاقتصادية، وهو ما يعني عمليا تقليص الإنفاق العام، وتحرير الأسواق، وخصخصة المؤسسات. ـ بداية العولمة وأمريكا القطب الأوحد : في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، أدى انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط جدار برلين إلى نهاية الحرب الباردة وبروز الولايات المتحدة كقوة اقتصادية أحادية. اتجه العالم نحو العولمة والانفتاح التجاري، مدفوعا باتفاقيات مثل اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (NAFTA) وإنشاء منظمة التجارة العالمية (WTO) عام 1995. وازدادت حركة رؤوس الأموال، وانتشرت الشركات متعددة الجنسيات، وأصبحت سلاسل ا . ـ الأزمة المالية العالمية 2008 : شهد العالم في 2008 أكبر أزمة اقتصادية منذ الكساد الكبير، بدأت بانهيار سوق الرهن العقاري في الولايات المتحدة ثم امتدت إلى الأسواق العالمية. اضطرت البنوك المركزية إلى ضخ تريليونات الدولارات لإنقاذ النظام المالي، وأعيد النظر في جدوى تحرير الأسواق المالية بالكامل . وتبنت العديد من الدول سياسات التيسير الكمي وخطط تحفيز اقتصادي واسعة، بينما زادت الدعوات لإصلاح المؤسسات المالية الدولية. ـ التحول الرقمي واقتصاد التكنولوجيا محركا النمو : مع دخول العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، أصبحت التكنولوجيا الرقمية المحرك الرئيسي للنمو. وقادت شركات التكنولوجيا الكبرى (مثل أبل وأمازون وغوغل) الاقتصاد العالمي، بينما تحولت البيانات والذكاء الاصطناعي إلى موارد استراتيجية. في المقابل، تزايدت التحديات المتعلقة باحتكار الأسواق، وحماية الخصوصية في الاقتصاد الرقمي. ـ عقد الأزمات التي انتجت ازمة اقتصادية عالمية : منذ العام 2020 جاءت جائحة كورونا كصدمة اقتصادية عالمية أدت إلى انكماش حاد في الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وارتفاع البطالة، وتضخم الديون. وأجبرت الحكومات على إطلاق حزم إنقاذ ضخمة، وتحولت سلاسل التوريد إلى أكثر هشاشة، وازداد التوجه نحو السياسات الحمائية. وفي 2022 اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية التي أدت إلى هزة عنيفة في أسواق الطاقة والغذاء، خصوصا في أوروبا والعالم النامي، وأعادت الحرب التوترات الجيوسياسية إلى الواجهة، وأثّرت على التجارة العالمية، كما عمقت الانقسام بين الغرب وكتل اقتصادية جديدة بقيادة الصين وروسيا. وفي عام 2025، ومع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، أصدر أمرا تنفيذيا بفرض رسوم جمركية ضخمة على معظم دول العالم، في خطوة وصفت بأنها الحدث الاقتصادي الأهم منذ الأزمة المالية العالمية، بل ومن المحتمل أن يحكم عليها التاريخ في النهاية بأنها أكثر أهمية. رسوم ترامب وصفت بأنها تعيد ضبط النظام الاقتصادي العالمي الذي عملت في ظله معظم الدول على مدى الثمانين عاما الماضية، مدخلا العالم إلى حقبة جديدة.
|
||||||||||