أبحاث
كتب فاطيمة طيبى 6 مايو 2025 3:05 م - التعليقات الوجبات السريعة: كيف تشكل صناعات المشروبات والوجبات السريعة الاقتصادات الناشئة؟ اعداد ـ فاطيمة طيبي يكشف الباحث إدواردو جوميز عن الوجه المظلم للعولمة في مجال الغذاء؛ وذلك في كتابه "سياسات الوجبات السريعة: كيف تشكل صناعات المشروبات والوجبات السريعة الاقتصادات الناشئة" . إذ تتضافر جهود شركات الأغذية فائقة المعالجة مع حكومات الدول النامية بهدف توسيع نطاق أسواقها وتحقيق أقصى قدر من الأرباح. ويأتي هذا التوسع على خلفية قيام الأسواق المتقدمة بتضييق الخناق على هذه الصناعات من خلال تبني سياسات فاعلة، مثل فرض "ضرائب السكر" وإطلاق حملات توعية صحية مكثفة. ويعد هذا الكتاب، الصادر عام 2023، محاولة جريئةً ومتعمقةً لقراءة السياسات التي تحكم العلاقة بين الدول النامية وصناعات الأغذية غير الصحية. ويحذر جوميز في كتابه من أن تفاقم المشكلة الصحية العالمية لا يقتصر في أسبابه على الخيارات الفردية فحسب، بل يمتد بجذوره ليشمل مصالح سياسية وتجارية عابرة للحدود تتحكم في المشهد العام. ـ توجيه اديولوجي و تلاعب صناعي ممنهج حول فلسفة الاستهلاك : لطالما ألقيت المسؤولية على عاتق الأفراد فيما يتعلق بخياراتهم الغذائية؛ حيث يصور الخطاب العام السائد حالات البدانة والسكري وأمراض القلب كنتيجة مباشرة لسلوك شخصي خاطئ. يتأصل هذا الطرح بشكل أعمق في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تنتشر صيحات الطعام الرائجة على منصات مثل "تيك توك"، مما يروج لعادات الأكل المفرط وغير الصحي. بيد أن جوميز يتحدى هذا المنطق، مقترحا إطارا تحليليا مغايرا يلقي باللائمة بشكل أساسي على التحالف الخفي القائم بين الشركات العملاقة وصناع القرار السياسي. كما يوضح المؤلف ايضا أن صناعات المشروبات الغازية والوجبات السريعة لا تكتفي بالترويج لمنتجاتها فحسب، بل تشارك بنشاط في صياغة السياسات العامة التي تسهل دخولها إلى الأسواق النامية وتمنحها شرعية زائفة لا تستحقها. ـ الهروب من الرقابة نحو الاقتصادات الناشئة كملجأ امن : يشير المؤلف إلى أن توسع هذه الشركات في الاقتصادات الناشئة لم يكن مدفوعا بالرغبة في غزو الأسواق الجديدة فحسب، بل كان أيضا نتيجة لتراجع شعبيتها، ومواجهتها قيودا متزايدة في الأسواق الغربية. فقد بات المستهلك الغربي أكثر وعيا بالمخاطر الصحية المرتبطة بالأطعمة فائقة المعالجة، الأمر الذي دفع الحكومات إلى تبني سياسات تنظيمية أكثر صرامة، كوضع علامات تحذيرية واضحة، أو فرض ضرائب على المشروبات السكرية الضارة بالصحة. إزاء هذا الواقع المتغير، لجأت الشركات إلى "الاقتصادات الناشئة"، حيث غالبا ما تكون السياسات التنظيمية أضعف، وتكون الدول أكثر استعدادا لقبول الاستثمارات الأجنبية المباشرة دون فرض شروط صحية صارمة. ـ علاقات المصالح المتشعبة، وتأثيرها على السياسات العامة : يعد أحد أبرز إسهامات الكتاب هو تقديمه إطارا نظريا جديدا بعنوان "السياسات الصناعية والمؤسسات التكميلية"، والذي يسلط الضوء بشكل معمق على المصالح والروابط الوثيقة بين الدول وصناعات الأغذية غير الصحية. ويستعرض جوميز، على سبيل المثال، الدور المحوري الذي لعبه الرئيس المكسيكي الأسبق فيسنتي فوكس، الذي سبق له أن شغل منصبا قياديا رفيعا في شركة "كوكاكولا"، في عرقلة محاولات فرض ضرائب على المشروبات الغازية داخل بلاده. وعلى المنوال ذاته، تبنى خلفاؤه نهجا ترحيبيا مشابها تجاه شركات عالمية كبرى مثل "بيبسيكو" و"نستله"، مبررين ذلك بأن هذه الاستثمارات توفر فرص عمل وتعزز النمو الاقتصادي، حتى وإن كان الثمن هو تفشي أمراض السمنة والسكري بين فئات المجتمع المختلفة، بمن فيهم الأطفال. ـ الشرعية الزائفة تحت ستار "المسؤولية الاجتماعية للشركات" : تستخدم شركات الوجبات السريعة برامج "المسؤولية الاجتماعية للشركات" كأداة رئيسية لبناء تحالفات قوية مع الحكومات، لا سيما في قطاع التعليم الحيوي. ففي المكسيك، على سبيل المثال تعاونت شركة "بيبسيكو" مع وزارة التعليم لإطلاق برامج رياضية في المدارس، بينما اعتبرت في الهند شريكا مهما في جهود الحكومة الرامية إلى تحسين تغذية الأطفال. لكن جوميز يفضح ببراعة هذه الاستراتيجيات، مؤكدا أن الهدف الحقيقي من ورائها ليس تحقيق الصحة العامة كما يدعى، بل هو كسب الشرعية المجتمعية، وتحييد أي دعوات جادة لفرض تنظيمات صارمة على منتجاتها الغذائية الضارة. ـ لماذا تستهدف هذه الشركات الاقتصادات الناشئة تحديدا؟ : على الرغم من التحليل الدقيق والشامل الذي يقدمه جوميز في كتابه، فإن ثمة تساؤلات مهمة تستحق المزيد من التوسع والتعمق: لماذا تنجح هذه الصناعات تحديدا في غزو أسواق الدول النامية بهذه السهولة والسرعة؟ يشير الكاتب إلى بعض الأسباب المحتملة، لكنه لا يتعمق بما فيه الكفاية في العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المعقدة التي تجعل هذه الأسواق هشة وضعيفة أمام نفوذ الشركات العملاقة وقدرتها على التأثير. ففي ظل تفاقم مشكلتيِ الفقر وغلاء المعيشة، تصبح الأطعمة السريعة رخيصة الثمن خيارا شبه وحيد ومتاحا لشرائح واسعة من المجتمعات في هذه الدول. هكذا، تجد الشركات في انعدام الأمن الغذائي بيئة خصبة لتعزيز حضورها وتكريس نفوذها. وتستغل هذه الشركات حالة الاضطراب الاجتماعي والاقتصادي لإغراق الأسواق بمنتجاتها الرخيصة والضارة، مستفيدة من الحاجة الملحة لخيارات غذائية منخفضة التكلفة، حتى لو كانت على حساب الصحة العامة. ـ قد يعتبرها البعض على انها شكلا من اشكال السيطرة الغذائية ويعتبرها البعض الاخر شكلا جديدا من أشكال الاستعمار : لا يقتصر نقد جوميز على الجانب الاقتصادي فحسب، بل يذهب إلى الربط بين انتشار هذه السياسات والهيمنة الثقافية والاقتصادية المتزايدة على النظم الغذائية المحلية التقليدية. فقد أصبحت علامات تجارية عالمية مثل "ماكدونالدز" و"كوكاكولا" رموزا بارزة للعولمة الثقافية الأمريكية، تتغلغل بعمق في الثقافات المحلية، وتزاحم الأطعمة التقليدية الصحية، وتعيد تشكيل العلاقة التاريخية بين الناس والطعام بشكل جذري. ويستحضر المؤلف في هذا السياق أفكار عالم الاجتماع البارز جورج ريتزر التي طرحها في كتابه المؤثر "مكدونالدزية المجتمع"، حيث تسود ثقافة الوجبات الجاهزة السريعة، ويتقلص التنوع الغذائي بشكل ملحوظ، وتغرب المجتمعات عن مصادرها الغذائية الأصلية وتراثها الغذائي الغني . ـ بين مطرقة الربح وسندان السياسة تضيع صحة الشعوب : في الختام، يقدم كتاب "سياسات الوجبات السريعة" تحذيرا واضحا: إن ما نشهده اليوم من أنظمة غذائية مضطربة وغير صحية في دول الجنوب العالمي ليس مجرد نتيجة لتطور طبيعي في أنماط الاستهلاك، بل هو انعكاس لواقع معقد يتمثل في تحالف بين السياسة والتجارة. إنه تحالف خطير يعيد تعريف مفهوم السيادة الغذائية للدول، ويجعل صحة الشعوب ومستقبلها الصحي رهينة لمعادلات ربحية بحتة لا تكترث على الإطلاق للعواقب الصحية والاجتماعية والاقتصادية طويلة المدى . وبينما تسعى هذه الصناعات بكل قوتها لتوسيع نفوذها وسيطرتها على الأسواق العالمية، تبقى الحاجة ماسة إلى تبني سياسات صحية عادلة، وفرض تنظيمات صارمة على هذه الصناعات. والأهم من ذلك، بناء مجتمعات مدنية واعية وقادرة على مقاومة هذا التواطؤ الممنهج والخطير بين المال والسياسة الذي يهدد صحة الأجيال القادمة.
|
|||||||||||||||